کدخبر: ۱۶۴۶۶۲۳ تاریخ انتشار:

رؤیة عرفانیة روحیة

تمكن الإمام أن يتوافر على رؤية عرفانية روحية، وعلى رؤية فلسفية عقلية، وعلى رؤية سياسية تغييرية في آن واحد.

 

السيد كامل الهاشمي[۱]

في الحديث عن الفلسفة السياسية في فكر وتجربة الإمام الخميني ــ رضي الله عنه ــ تلتقي ثلاثة روافد مهمة لابد للباحث من أخذها بعين الاعتبار إذا ما أراد أن يستتم صورة متكاملة ومتجانسة عن منهج الإمام الخميني في الشأن السياسي التغييري، فقد كانت تستجدبه ثلاثة عوامل استطاع ــ رضي الله عنه ــ أن يجمعها في شخصيته وفكره ووجوده، وبالتالي في تجربته السياسية المنجزة، وهذه الروافد أو العوامل هي: العرفان، الفلسفة والسياسة.

وعلى هذا الأساس، تمكن الإمام أن يحصل على رؤية عرفانية روحية، وعلى رؤية فلسفية عقلية، وعلى رؤية سياسية تغييرية في آن واحد.

وهذه الأبعاد الثلاثة التي توافرت عليها شخصية الإمام الراحل قصدنا حكايتها والإشارة إليها من خلال الدلالات التي يوحي بها عنوان بحثنا هذا. فالإشراقات، كلمة تنتمي إلى المجال العرفاني الذي انطوت عليه شخصية الإمام الراحل والذي برز في طريقة تفكيره ونظرته لمختلف قضايا الحياة.

الفلسفة كلمة تنتمي إلى المجال الفلسفي الذي أظهر الإمام براعة ودقة في التعامل معه والتعرف على دقائق مباحثه العقلية والنظرية. والسياسة كلمة تنتمي إلى المجال السياسي الحركي الذي أفصح الإمام عن قدرة خاصة على الخوض فيه واستيعاب متطلبات التحرك في أجوائه.

وفي الوقت الذي أردنا أن تشير هذه الكلمات المذكورة في عنوان المقالة إلى تلك الأبعاد الثلاثة التي انطوت عليها شخصية الإمام الراحل رضي الله عنه، فإننا أردنا أن نشير من خلالها أيضاً إلى استحالة التعرف على شخصية الإمام الخميني ووعي منهجه في التغيير الاجتماعي والديني الذي تمثله في فلسفته السياسية العملية من دون الإحاطة بهذه الأبعاد الثلاثة من شخصيته; ومن هنا نرى أن خطأ يمكن أن يقع فيه أي باحث يستهدف دراسة فكر وتجربة الإمام الخميني في المجال السياسي بعيداً عن التعرف التام وبشكل مسبق على رؤيته العرفانية ورؤيته الفلسفية.

ومهما يكن من أمر، فإن المجال السياسي الذي تحرك الإمام الخميني في أجوائه لم يكن ينطلق فيه بلا استناد إلى رؤية واضحة لمتطلبات التغيير الاجتماعي، بل على العكس من ذلك فإن الممارسة السياسية التي تمثلها الإمام الراحل تفصح بما لا يقبل الشك عن أسس متينة ومبادئ إنسانية وإسلامية شاملة ومستوعبة كانت تنطلق منها هذه الممارسة، بمختلف صورها ومراحلها.

ومما يلزم التوجه إليه في البحث عن مضامين الفلسفة السياسية عند الإمام الخميني ــ رضي الله عنه ــ هو أن الإمام قد تشعبت اهتماماته العلمية والفكرية، ففي الوقت الذي كان فقيهاً أصولياً من الطراز الأول كان أيضاً معنياً بالفلسفة والعرفان ضمن مستوياتهما العلمية العالية ومباحثهما النظرية الدقيقة، وهو أيضاً مفسر متمرس للقرآن الكريم، وبالإضافة إلى ذلك كان الإمام الراحل كما تدلل على ذلك الكثير من كلماته وتحليلاته، يتوافر على رؤية تحليلية دقيقة وعميقة للحوادث التاريخية، سواء تلك التي عاصرها وعايشها أم تلك التي قرأ عنها ودرسها، وكل هذه الاهتمامات العلمية والنظرية استطاع الإمام الراحل أن يقرن بينها وبين الممارسة العملية مما أكسب تجربته الشخصية في المجال السياسي الإصلاحي والتغييري، بعداً استثنائياً لم تتوافر عليه تجارب غيره من المصلحين في عالمنا الإسلامي.

وإذا كانت بعض المجالات النظرية والعلمية في الفلسفة السياسية لم تتح الفرصة للإمام الراحل أن يبدي وجهة نظره فيها وأن يعطي رأياً بشأنها، إلا أن الممارسة العملية للإمام في المجال السياسي بالإضافة إلى ما قدمه ــ رضي الله عنه ــ من أفكار ورؤى علمية في المجال الفقهي التقليدي وفي المجال الفلسفي والعرفاني، كل ذلك يمكِّن الباحث من استخلاص رؤية تفصيلية للإمام الخميني في موضوع الفلسفة السياسية بما تحتوي عليه هذه الفلسفة من معالجات عمومية ــ بل وتفصيلية في كثير من الأحيان ــ لشؤون الحكم وكيفية ممارسة السلطة.

وسنحاول في بحثنا هذا أن نسلط الضوء على جملة من الأبعاد النظرية والعملية في فكر وتجربة الإمام الخميني بالشكل الذي يفصح عن مضامين فلسفة سياسية مستوعبة، استطاع أن يفتح آفاق التجربة الإسلامية الحديثة والمعاصرة عليها، مما يستلزم من كل المعنيين بمصير ومستقبل هذه التجربة أن يتوقفوا عند المحطات التي استثارتها واستفتحتها التجربة الإسلامية التي قادها وأسس لها هذا الإمام المصلح الثائر.

وسنتوقف عند ثلاث محطات مهمة تناولها الإمام الخميني في فلسفته السياسية، وهي:

أولاً ــ الإنسان في فلسفة الإمام السياسية.

استثارة الحديث عن قيمة وموقع الإنسان في الفلسفة السياسية للإمام الخميني، قد يكون هو الأمر الذي يجلّي بكل وضوح التقاء وتداخل العناصر الثلاثة التي أشرنا إليها في مقدمة البحث في الفكر السياسي للإمام الخميني، ففي أحاديث الإمام عن الإنسان يبرز هذا الموجود كذات تستهدف كل خطابات الإمام صياغتها والارتقاء بها كما كانت تستهدف خطابات الرسالات والرسل ذلك، ومن هنا يتواصل خطاب الإمام ومنهجه في التفكير مع خطابات كل الرسل والأنبياء التي كانت تجعل الإنسان مصب حديثها واهتمامها، وربما يكون هذا الأمر هو الذي جعلنا نستبق الحديث عن موقع وقيمة الإنسان في الفلسفة السياسية للإمام الخميني، قبل الحديث عن أيّ موضوع آخر في هذه الفلسفة.

وبالرغم من أن هذه الفلسفة موضوع بحثها في الأصل هو السلطة، إلا أن التصورات التي تقدمها أيّة فلسفة سياسية عن الإنسان يمكن اعتبارها حجر الأساس في طبيعة التصورات والأفكار التي يمكن أن تؤسسها هذه الفلسفة في شأن السلطة ومنهج الحكم.

والإنسان في الرؤية الفلسفية للإمام مجلّل بتصوير عرفاني متسام لهذه الحقيقة الوجودية التي يعتبرها الإمام (خلاصة كل موجودات العالم)[2]; والإنسان أيضاً في التصور الذي يقدمه عنه الإمام الخميني مشروع لتنازع الخير والشر وهو دائماً مخير في الاستجابة لكلمة الله أو لنداء الشيطان، وهذا ما يجعل الإنسان يتميز عن بقية الموجودات والمخلوقات الإلهية في نظر الإمام، إذ (الإنسان موجود عجيب من بين جميع موجودات ومخلوقات الباري تعالى، وليس هناك موجود مثل الإنسان، ومحل التعجب في وجود الإنسان أنه يمكن أن يُجْعَل منه موجوداً إلهياً ملكوتياً، ويمكن أن يُصنَع منه موجوداً جهنمياً شيطانياً)[3].

ويرى الإمام أن الإنسان ينطوي على قدرة غير متناهية في التعالي كما في التسافل، فــ (الإنسان أعجوبة غير متناهية من الطرفين: فهو من طرف السعادة غير متناه ومن طرف الشقاوة غير متناه أيضاً)[4].

ومن الواضح أن الإمام الخميني حينما يقرر أولاً بأن الإنسان يمكن أن يجعل من نفسه موجوداً إلهياً كما يمكنه في مقابل ذلك أن يصنع من وجوده وجوداً شيطانياً، ويقرر ثانياً أن الإنسان موجود غير متناه من طرفي السعادة والشقاوة، فهو إنما يضع الإنسان أمام مسؤوليته في اختيار وتحديد مصيره بإرادته واختياره، من دون أن تكون هناك إرادة قاهرة أو قوة قاسرة تستلب قدرته على التمييز بين الخير والشر والحق والباطل، وتصادر اختياره في ما يريد سلوكه من أحد طريقي الخير أو الشر، ولا شك أن هذه الفكرة فكرة تنسجم مع حقائق العقل وتتوافق مع معطيات الوحي القرآني الذي يتحدث في هذا الشأن عن النفس الإنسانية قائلاً: {ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها}[5].

ويتحدث القرآن الكريم في مورد آخر عن مضمون هذه الفكرة التي يثيرها الإمام الخميني حول قدرة الإنسان على تحديد واختيار مصيره بنفسه حينما يقول في معرض حديثه عن الإنسان: {وهديناه النجدين}[6]، وهذه الآية المباركة تفصح عن أن الله عزّ وجلّ هو الذي أعطى الإنسان ومنحه ابتداء القدرة على معرفة الخير من الشر وتمييز الحق من الباطل، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتحمل الإنسان المسؤولية الكاملة في ما يقوم به من أفعال، لأن الفعل المسؤول هو الفعل الصادر عن عقل وإرادة، ولقد أنعم الله تعالى على الإنسان بهذين الأمرين مما يجعله مسؤولاً عن كل فعل اختياري يصدر عنه، وإذا ما سُلِبَ الإنسان العقل أو الإرادة فإن حساب المسؤولية يسقط عنه.

وكل هذه التصورات التي يقدمها الإمام عن الإنسان تستدعي أن يصير الإنسان محوراً أساسياً في الفكر الفلسفي والمشروع السياسي التغييري له; فيفصح عن محورية الإنسان في تفكيره الفلسفي ومشروعه السياسي من خلال بيانه التالي والذي يقول فيه: إذا كان لكل علم موضوع، فإن علم كل الأنبياء موضوعه الإنسان; وإذا كان لكل دولة مشروع فإن المشروع الذي يمكننا أن نقول أنه مشروع رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ هو المضمون الذي تختزنه أول سورة أنزلت على رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: {بسم الله الرحمن الرحيم * اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم}[7]. كل الأنبياء موضوع بحثهم، وموضوع تربيتهم، وموضوع علمهم الانسان، فلقد جاءوا لتربية الإنسان، جاءوا لأجل أن يرتقوا بهذا الموجود الطبيعي من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة ما وراء الطبيعة وما وراء الجبروت المتعالية; كل بحث الأنبياء منذ أول مجيئهم وبعثتهم، كان حول الإنسان وعن الإنسان، وكلهم بعث من أجل الإنسان ولأجل تربية الإنسان[8].

وفي هذا المجال يلمح الإمام نقطة رائعة تكشف عن عمق المعنى الإنساني في رسالات السماء التي حملها الرسل والأنبياء: فيتحدث عنها قائلاً: إن المذاهب والاتجاهات التي تعتني بالإنسان من قبل أن يكون نطفة إلى أن ينتهي ــ وإن كانت لا نهاية للإنسان ــ ليست سوى مذاهب واتجاهات الأنبياء، وما سواها من مذاهب واتجاهات لا شأن لها بالإنسان من حيث الزوجة التي ينتخبها ويرتبط بها، ولا بالمرأة من حيث الزوج الذي تنتخبه; إنهم يرون لا ربط لهم بهذه المسائل، ولا يوجد أصلاً في ما يشرعونه من قوانين. إن على الانسان أن يختار لنفسه أي زوج أو زوجة; وليس في قوانينهم ماذا على الأم أن تفعل تجاه جنينها في أيام الحمل، وماذا ينبغي أن تعمل حينما تريد أن ترضع وليدها، وحينما يكون الطفل في رعاية أمه ما الوظيفة التي تتحملها تجاهه، وما هي وظيفة أبيه بحقه ; كل القوانين المادية والوضعية وكل المناهج غير النبوية لا شأن لها بهذه الأمور، وفقط حينما يصبح الإنسان اجتماعياً باختلاطه بالمجتمع يقننون القوانين للوقوف في وجه المفاسد التي يمكن أن تصدر منه، وفقط يواجهون تلك المفاسد التي تضر بالنظم الاجتماعي، وأما المفاسد التي ترتبط بحياة ومعاشرة الإنسان فإنها لا تعنيهم...[9].

وهذه الفقرة من كلام الإمام ــ رضي الله عنه ــ توضح لنا عمق المغزى الإنساني والأخلاقي الذي ينطوي عليه اهتمام الإمام بالإنسان، فهو يرفض أن يقتصر الاهتمام والتفكير في الإنسان ضمن دائرة مصلحة حفظ النظام الاجتماعي باعتبارها مصلحة مشتركة بين كل أفراد المجتمع، لأن هذا الاهتمام لا يكشف سوى عن طريقة نفعية مؤقتة في التعامل مع وجود الإنسان، في الوقت الذي لابد من النظر إلى الإنسان بما هو حقيقة وجودية تأبى أن تنحصر في الزمان والمكان المعينين والمحدودين، وتأبى في الوقت نفسه أن تتحدد وتنحصر منفعتها ضمن وجودها الأرضي وما يرتبط بهذا الوجود من علاقات واهتمامات.

ومن هنا يمايز الإمام بين الأديان الإلهية والمذاهب الوضعية في موقفها من الإنسان، فالأخيرة تعني بالإنسان من حيث هو ظاهرة وجودية أرضية مؤقتة تحيي فترة زمنية على هذه الأرض ثم ترحل وتنتهي، وبموتها ينتهي كل وجودها، وانطلاقاً من هذه الرؤية لابد أن تصب كل جهود وقدرات الإنسان الفرد في خدمة وضعه الدنيوي الذي لا يمكن للإنسان أن يجد مبرراً للتواصل معه بعد موته إلا من خلال المفهوم الأخلاقي لخدمة المجتمع، وهو مفهوم لا يمكن أن يستشعر الإنسان قيمته في ظل الفكرة المادية التي تختزل كل وجود وحقيقة الإنسان بربطه بهذا العالم الأرضي نافية وجود المصير الأخروي للإنسان الذي يفصح عن ارتباط شديد بين استحقاقات الإنسان في العالم الأخروي وبين أعماله في هذه الحياة الدنيا، بينما تؤكد كل الأديان الإلهية بلا استثناء على أولوية المصير الأخروي في اهتماماتها، وهي تنطلق في محاولتها لإقناع الإنسان بهذه الحقيقة من موقع التسليم العقلي والإيمان القلبي بانقطاع الحياة الدنيا وانتهائها وضرورة انتهاء ورجوع الانسان إلى خالقه وربه.

وهذا ليس مجرد خطاب أخلاقي تتبناه الأديان من أجل أن تحفظ للفعل الأخلاقي قيمته ودوره في حياة الإنسان، بل هو خطاب يستند ــ وكما أشرنا ــ إلى حقائق العقل المجرد والتي يوافقها ويطابقها الوحي الديني في ما ترشد إليه تمام الموافقة والمطابقة.

وما يميز خطاب الإمام الخميني حول الإنسان أنه خطاب أخلاقي تحليلي في عمق الذات الإنسانية، فهو يسعى لاكتشاف مجاهل النفس البشرية والتعامل معها، انطلاقاً من باطنها، وهذا لا يعني أن الإمام كان ذا نزعة باطنية ساذجة وتبسيطية تسعى للقفز على حقائق الواقع وغض النظر عنها عبر التجائها إلى الباطن وإغراقها في عملية التحليل الذاتي للآخرين إلى الحد الذي تتحول من خلاله نفس الذات الدارسة لتصرفات وسلوك الآخرين إلى ذات تعيش التعقيد والتأزم في نظرتها للآخرين وفي ما تستهدف تأسيسه من علاقات مع الآخر.

بل على العكس من ذلك فإن النظرة التي كان يحملها الإمام الخميني للإنسان كانت تبتني على أن هذا الموجود ينطوي على قدرات وطاقات خلاّقة لابد من تفجيرها وتسييرها في الطريق الصحيح، ومن هنا كان يعتبر أن المحور الذي تؤَسَس عليه عملية الصلاح الفردي والإصلاح الاجتماعي تمرّ أولاً عبر الذات الإنسانية ضمن وجودها الفردي ومسعاها الذاتي، وقد بيّن ذلك في العديد من كلماته وأفكاره، فهو يقول: كل فرد لابد أن يبدأ من نفسه، وأن يسعى لأن تتوافق عقائده وأخلاقه وأعماله مع الإسلام. وبعد أن يصلح نفسه حينئذ عليه أن يتحرك باتجاه إصلاح الآخرين[10].

وفي كلمة أخرى له يتحدث الإمام عن أهمية التحرك الدائم والمتواصل للإنسان في مضمار تجديد وتطوير جميع قواه العقلية والنفسية والسلوكية مما ينفي عن عملية تهذيب النفس الطابع السكوني الذي يحولها إلى عادة غير ذات معنى في حياة الإنسان، فيقول: ما يلزمنا جميعاً هو أن نشرع من أنفسنا، وأن لا نقنع بإصلاح ظواهرنا; يجب علينا أن نبدأ من قلوبنا وعقولنا، ولابد أن نسعى في كل يوم من أجل أن يكون يومنا القادم أفضل من يومنا السابق[11].

وهكذا تبرز النفس الإنسانية في تفكير الإمام ــ رضي الله عنه ــ كموضوع أول لأيّة عملية إصلاحية في المجتمع، فهي المبدأ لكل تغيير وإصلاح يمكن أن يطرأ على المجتمع والأمة، ولأجل ذلك تكررت بيانات الإمام في الدعوة إلى تزكية النفس وإصلاحها، إذ كل إصلاح مبدؤه الأول نفس الإنسان[12]، و منشأ كل الأخطار التي تواجه الإنسان هو نفس الإنسان، كما أن مبدأ الصلاح لابد أن ينطلق من نفس الإنسان[13].

ثانيا ًــ المجتمع والأمة في فلسفة الإمام السياسية

الحديث عن المجتمع والأمة في فلسفة الامام السياسية يأتي مكملاً للحديث المتقدم عن موقع وقيمة الإنسان في هذه الفلسفة نفسها، ولذا رأينا أن نعقب الحديث عن الإنسان في فلسفة الإمام السياسية بالحديث عن قيمة المجتمع ودور الأمة في ثنايا الفلسفة السياسية للإمام الراحل رضي الله عنه.

وما يبرر الحديث عن دور وموقع الأمة والمجتمع بشكل منفصل عن الحديث عن قيمة وموقع الإنسان الفرد في التصورات السياسية الفلسفية التي قدمها الإمام الخميني هو كثافة النصوص الخمينية التي عنت بالإشارة إلى دور وموقع الأمة والمجتمع بشكل محدد، مما أفرز العديد من التصورات الخاصة عن هذا الدور وطبيعة المهام التي ينتظر منه تأديتها والقيام بها بما هو وجود مُجْتَمِع وفاعل للأفراد.

وأول ما يسترعي الانتباه في تصورات الإمام للمجتمع هو التنبه الدقيق والناقد في الوقت نفسه إلى طريقة التعامل مع المجتمعات البشرية التي أنتجتها الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة، والتي تنظر إلى المجتمع البشري بما هو مصنع كبير يدار بنفس المنهجية التي تدار بها المصانع الآلية، وهي منهجية تجرد الوجود الاجتماعي للإنسان من طبيعته الأصلية وحقيقته الذاتية التي ترفض المساوقة بين إدارة المجتمع وإدارة المصنع لاختلافهما في الطبيعة الذاتية، ولافتراق الإنسان الفرد والمجتمع عن المصنع في حقيقتهما الوجودية، مهما فرض من وجود تشابه بين الاثنين على أكثر من مستوى.

ويقدم الإمام تصوراته النقدية عن هذه المنهجية في التعامل مع المجتمع عبر قوله في لقاء صحفي أجري معه في باريس: في عالم اليوم الذي يقال عنه أنه عالم الصناعة، يريد القادة المفكرون أن يديروا المجتمع البشري كما يديرون أحد المصانع الكبرى، في الوقت الذي تتشكل المجتمعات من الناس التي تحمل بعداً معنوياً وروحاً عرفانياً; والإسلام إلى جانب مقرراته الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، يستهدف تربية الإنسان على أساس الإيمان بالله تعالى، وهو حينما يسعى لهداية المجتمع إلى هذا البعد فإنه يسعى أكثر من غيره لتوجيه الإنسان إلى التعالي والسمو والحصول على سعادته[14].

وينطلق الإمام ــ رضي الله عنه ــ في تأكيده على ضرورة صبغة المجتمع الإنساني بصبغة قائمة على الإيمان بالله عزّ وجلّ والتسليم إليه من اعتقاده الجازم بارتباط كل مشاكل وأزمات الإنسان الدينية والدنيوية بافتقاد الإنسان البعد الأخلاقي في حياته وممارساته، وهو البعد الذي لا يعتقد الإمام أن بإمكان الإنسان أو المجتمع أن يلتزماه في حياتهما ووجودهما في ظل ابتعادهما عن الله تعالى ونسيانهما الارتباط بالخالق الذي هو مبدأ كل خير وفضيلة، وهذا ما يدعوه لمواصلة حديثه السابق بالقول: إذا دخل الإيمان بالله والعمل لله في الفعاليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وسائر شؤون حياة البشر، فإن أعقد مسائل عالم اليوم يمكن أن تحل بكل يسر وسهولة، ومشكلة العالم اليوم أنه وصل إلى طريق مسدود وفي الوقت نفسه لا يريد أن يذعن إلى منهج الأنبياء في الهداية، مع أنه لن يجد مناصاً في نهاية المطاف من التسليم بذلك[15].

وباعتقادنا أن الإمام الخميني في تقييمه للوضعية الراهنة للعالم المعاصر وطبيعة المآل الذي سيؤول إليه هذا العالم في نهاية الأمر، يحكي ويستعيد تلك الثقة الكبيرة والمطلقة التي يفصح عنها الذكر الحكيم في موقفه العام من مسعى الكافرين والمتمردين على إرادة الله تعالى، والتي تؤكد بما لا يقبل الشك أنه ليس أمام الإنسان مهما ابتعد عن الله وتنكر له من نهاية ينتهي إليها سوى الله ذاته، إذ هو الغاية التي لابد أن ينتهي إليها كل سعي الإنسان وتتوقف عندها جميع حركاته، وفي ذلك يقول الله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}[16].

وهذه الحقيقة كما تواجه الكافر من بني الإنسان فإنها تواجه كل الناس كما يشير إلى ذلك تعالى بقوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}[17].

وإذا ما أردنا أن نفحص الخطاب الخميني تجاه الأمة فإننا سنجد أن أهم ما يميز هذا الخطاب هو ثقته الكبيرة بالأمة في شتى الظروف ومختلف المواقف، حتى أنك تشعر بالمديونية العظمى التي لا يتردد صاحب هذا الخطاب في الاعتراف بها للأمة، فهي التي ينبغي أن يعترف لها بالفضل في كل ما تحقق من نجاحات وانجازات، وحينما يتكلم عن الأمة فإنه يقول: كل ما لدينا هو من هذه الأمة، غاية الأمر أنه من تلك الأمة التي بنداء الله أكبر فعلت ذلك[18].

وهذا التقدير الذي يعطيه الإمام لتلك الأمة التي ساندته في نهضته الدينية والإنسانية ينطوي على تأكيد بليغ بأن نهضة وثورة الأمة تستكمل قيمتها الإنسانية، حينما تكون استجابة لنداء الله في القيام بالقسط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الحياة الحقيقية التي ينبغي أن يحيي الإنسان في ظلها ومن أجلها هي الحياة القائمة على العدل والمستندة إلى القسط والإنصاف، وهي الحياة التي جاءت كل الرسالات الإلهية وبُعث جميع الأنبياء والمرسلين: من أجل تحقيقها وإيصال الإنسان إليها كما أشار إلى ذلك تعالى بقوله: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط..}[19].

ومن المحتم أن يتوجه الخطاب القرآني الذي يستنهض الأمة والمجتمع ــ والذي يستعيده الإمام الخميني في خطابه للجماهير المسلمة في إيران ــ أولاً وبالذات إلى تلك الأمة التي آمنت بالقرآن واتخذته منهجاً لها في حياتها، وهذا ما كان على الأمة المسلمة في إيران أن تظهر الاستجابة المخلصة والصادقة له من أجل أن تكون مصداقاً حقيقياً لقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}[20].

وهذا ما يجعل الإمام الخميني يستعيد في ما وجهه من خطاب إلى الأمة التي حرك في وسطها نفس ذلك الخطاب القرآني الذي وجهه النبي الأكرم ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ إلى من خاطبهم بدعوته ورسالته فيقول: إني أعظكم بموعظة واحدة فقط، وهي أن تقوموا لله، فلتقوموا وليكن قيامكم لله أيضاً إذا ما أردتم أن يكون قيامكم قياماً مثمراً[21]; وهذا الخطاب الخميني يعيد إلى الذاكرة ذلك الخطاب الإلهي الذي يطلقه الله تعالى على لسان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يقول فيه: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله..}[22].

وفي موقف الإمام الراحل من الأمة ودورها في الشأن السياسي العام، نلمح تصوراً يقدمه الإمام يختلف فيه عن سائر التوجهات الإسلامية التي كانت تعكس وجهة نظرها على أنها النظرة الإسلامية الحقيقية والأصيلة، فلقد استبعدت هذه التوجهات في مرحلة سابقة أي دور للأمة في مسألة اختيار وتحديد طبيعة النظام الحاكم، على أساس أن تحديد طبيعة نظام الحكم هي قضية لا ترتبط بإرادة وآراء البشر، وإنما هي مسألة تتعلق بالإرادة الإلهية التي من شأنها أن تحدد طبيعة نظام الحكم وخصوصيات القائمين عليه والمواصفات اللازم توافرها فيهم وطبيعة ممارستهم لعملية الحكم والإدارة السياسية للمجتمع والأمة.

بينما جاء الإمام الخميني ــ رضي الله عنه ــ ليعترف بدور كبير وأساسي للأمة في اختيار وتحديد نظام الحكم الصالح لها، ولكن هذا الاعتراف ما كان يعني أبداً أن الإمام كان يرى أن اجماع واتفاق الأمة هما اللذان يحددان الحق والباطل في علاقة الدين بالسلطة السياسية، بل تلك مسألة تتحدد سعة وضيقاً في ضوء الحقائق التي يدركها العقل الإنساني عن حقيقة الدين وطبيعة الوظيفة التي يتعين عليه القيام بها في عالم الإنسان، وعلى حد تعبير بعض الباحثين العرب المعاصرين ينبغي في هذا المجال التمييز بين الإجماع في مجال النظريات والإجماع في مجال العمليات. ففي مجال النظريات ليس الإجماع مصدر حقيقة، ولا معياراً حاسماً لتثبيت حقيقة أو رفضها. إن الحقيقة النظرية لا تثبت بعدد الناس الذين يقولون بها، ولو كان إجماعاً. وإنما تثبت عن طريق البرهان والدليل، وهي مفتوحة على الدوام.

وأما في مجال العمليات، فإن الإجماع يصلح مصدراً ومعياراً للحقيقة، لأنّ الحقيقة العملية هي من قبيل المطلوبات الخيرية، والمطلوبات الخيرية تتقرر بالرغبة والإرادة، على أساس هداية ما من العقل)[23].

وهذا بالضبط ما كان الإمام ــ رضي الله عنه ــ قد وعاه تمام الوعي، ففي اعترافه للأمة بدورها في انتخاب نظام الحكم ما كان ليريد المراهنة على دور الدين وقيمته، فالدين في نظر الإمام هو حقيقة إلهية أسمى من أن يتدخل البشر في تحديدها وصياغتها، وإنما الحاكم الوحيد في تثبيت وتقرير الحقيقة الدينية في نظر الإمام ليس شيئاً آخر سوى العقل المجرد والمستقل[24]، وهذا ما سنلاحظه بكل وضوح حينما نتحدث بعد قليل عن المهمة التي قام بها في (إعادة تأسيس دور الدين في حياة الإنسان المعاصر).

وعلى كل حال، فقد كرر التركيز على أهمية ممارسة الأمة دورها في تأسيس ودعم الحكومة العادلة والدفاع عنها، وقد عبر الإمام عن ثقته الكبيرة بالأمة عبر كلماته التالية:

1 ــ إذا ما أرادت أمة من الأمم تحقيق شيء فإنه لابد أن يتحقق[25].

2 ــ إذا ما أرادت الأمة أمراً فلن يستطيع أحد مخالفتها[26].

3 ــ لا تتمكن أيّة قدرة مهما كانت، من الوقوف في مواجهة قدرة الأمة اللامتناهية[27].

وبعد أن يبرز الإمام الخميني ثقته المتعاظمة بالأمة[28] فإنه يطرح ثقته المطلقة بما ستختاره الأمة التي تتوافر على الوعي والفهم من نظام سياسي يحقق طموحاتها ويستجيب لمتطلباتها ويحفظ لها عزتها وكرامتها، فيندفع في هذا الشأن للتأكيد على أن الأمة تمتلك القدرة والصلاحية على تقرير مصيرها وأنها صاحبة القرار في ذلك دون غيرها ممن يريدون فرض إرادتهم عليها واستلاب حقها في تقرير المصير، فــمصير كل أمة بيدها[29]، وكل أمة لابد أن تعيّن وتحدد مصيرها بنفسها[30].ويرى الإمام أن إرادة الأمة حينما تتناغى وتتوافق مع الإرادة الإلهية فإنها تستطيع تحويل غير الممكن إلى ممكن، والمحال إلى واقع[31]; ولذا لم يفرط في هذه القدرة الكبيرة التي تحتويها الأمة في ذاتها وفعلها، بل كان يقول بكل اعتزاز: نحن نعتمد على قدرة الأمة[32]، وفي هذا المجال كان يعتقد أن أي نظام سياسي حينما يفتقد دعم وتأييد وثقة الأمة، فإنه يفتقد ــ بالإضافة إلى شرعيته ــ كل مبرر لبقائه واستمرار وجوده، وذلك لأن أيّة قوة عظمى حينما تفتقد القاعدة الشعبية لا تستطيع الوقوف على قدميها[33]، وإذا لم تسند الأمة الدولة فإن هذه الدولة لا تصلح ولا تستقيم[34].

وانطلاقاً من ذلك فقد كان الإمام يعول تمام التعويل على الدور الذي يمكن للأمة من خلال مشاركتها وفاعليتها في الشأن العام أن تحقق من خلاله لذاتها متطلبات الاستقرار الاجتماعي والثبات السياسي، فكان يرى أن وعي الناس، ومشاركتهم ومراقبتهم وتناسق حركتهم مع مقاصد حكومتهم المنتخبة هو أكبر ضمان لتحقيق وحفظ الأمن والاستقرار في المجتمع[35].

ولمّا كان ــ رضي الله عنه ــ يرى أن وعي ويقظة وفاعلية الأمة، هي الضمان الوحيد لاستقلالها وتحقيق عزتها وكرامتها في العيش والحياة، فقد رأى في الجهل وافتقاد الأمة الفاعلية السياسية أكبر عدوين يهددان وجودها ويستلبان قدرتها على تقرير مصيرها واختيار طريقها، وهذا ما يجعل الإمام يشخص (الجهل) سبباً أساسياً لكل الأزمات التي عاناها المسلمون في تاريخهم الطويل فيتحدث قائلاً: كل الأزمات التي أصابتنا طوال التاريخ تنبع من جهل الناس[36].

كما أن انسحاب الأمة عن القيام بوظائفها في مراقبة الحكام وتقويمهم، هو سبب آخر من الأسباب المهمة التي يرى الإمام أنها تهيي لابتلاء الأمة واعوجاج مسيرتها، فــالدولة إنما تصاب بالمحن حينما يفتقد مواطنوها حس المسؤولية[37].

وهذا الإحساس بخطورة جهل الأمة بدورها وتراخيها في القيام بوظائفها يدفع الإمام لاستحثاث الأمة في كل مناسبة للحضور في المجال السياسي العام بكل ثقلها وفاعليتها، فــكل الأمة ينبغي أن تكون حاضرة في الشؤون السياسية[38]، ولا ينبغي أن تنعزل الأمة، وإذا ما انعزلت الأمة فكلنا سنهزم[39].

ويربط الإمام تمام الربط بين كل تقدم يمكن للدولة أن تحرزه في أي مجال من المجالات وبين دعم الأمة ومساندتها لها، ولذلك كان يقول: إذا ما قعدت الأمة جانباً وأرادت من الدولة انجاز عمل ما فإن الدولة ستعجز عن ذلك[40].

واللطيف في المنهجية السياسية التي مارسها خلال مدة قيادته للدولة الإسلامية في إيران، أنه كان لا يترك الفرصة تمرّ من دون أن يستثير الناس ضد أية ممارسة خاطئة أو مستبدة يمكن لأحد أفراد الجهاز الحاكم في الدولة أن يرتكبها في الوقت الذي كان هو على رأس هذا الجهاز ويمتلك أعلى سلطة شرعية ورسمية في إدارة شؤون الدولة، ولقد تحدث في إحدى المرات قائلاً: على السادة أن يتوجهوا وعلى الأمة جمعاء أن تراقب هذه الأمور، عليها أن تنظر حينما اتخلى عن المسؤولية أو إذا ما انحرفت، عليها أن تقول لي: لقد انحرفت فراقب نفسك، إن المسألة في غاية الأهمية. الأمة كلها مسؤولة عن مراقبة كل الأمور والحوادث المرتبطة بالإسلام فعلاً، وإذا رأت أيّة لجنة من اللجان ــ لا قدر الله ــ تسير بخلاف مقررات الإسلام، فعلى الكسبة أن يبدوا اعتراضهم، وعلى المزارعين أن يبدوا اعتراضهم، ويجب على العلماء والمعممين أن يعترضوا، عليهم أن يعترضوا حتى يستقيم هذا الاعوجاج[41].

ويحث الإمام الأمة بكل قطاعاتها على ممارسة حقها في نقد وتصحيح ومواجهة كل أخطاء السلطة السياسية الحاكمة بجميع أجهزتها ومسؤوليها عبر استشهاده بقضية تاريخية حدثت في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فيقول: إذا ــ لا قدر الله ــ وجد شخص عمل عملاً غير صحيح فعلى الأمة أن تعترض وأن تسأله لماذ عملت هذا العمل؟ في صدر الإسلام حينما قال عمر: إذا أنا عملت عملاً، فماذا تفعلون؟ فأخرج رجل عربي سيفه وقال: نقومك بهذا السيف. علينا أن نكون كذلك، وعلى المسلمين أن يكونوا كذلك في مواجهة أيّ شخص كان، فسواء انحرف خليفة المسلمين أم أيّ شخص آخر علينا أن نسل سيوفنا حتى نقومه[42].

وهذه المنهجية التي نظر بها الإمام إلى مسألة نقد السلطة السياسية في الوقت الذي تدلل على أهمية الدور الذي أراد أن يسنده للأمة في مراقبة جهاز الحكم وتصحيح أيّ خلل يمكن أن يتواجد في مساره، فإنها تفصح عن الرؤية التي كان الإمام الراحل يحملها للنقد السياسي بما هو فاعلية تصحيحية إيجابية لا يمكن لأي مجتمع متحضر أن يقلل من شأنها أو يمنع من ممارستها.

ثالثا ًــ إعادة تأسيس دور الدين في حياة الإنسان المعاصر

قد يعتبر هذا البعد من أهم الأبعاد على الإطلاق في فكر وتجربة الإمام الخميني في ما يرتبط بفلسفته السياسية في المجالين النظري والعملي على السواء، فلقد كان الإمام ــ رضي الله عنه ــ يدرك تمام الإدراك أن الصورة الحقيقية للدين قد شوهت وأخفيت طوال القرون السابقة من حياة الأمة، وإن أيّة محاولة دينية للنهوض بالأمة لا يمكن أن تتحقق من دون إزاحة التراكمات والتشوهات التي قدر لها أن تغطي الصورة الحقيقية الناصعة للدين، ومن هنا كان عليه أن يعيد تأسيس دور الدين في حياة المجتمع، وأن يفصح عن المهام الرئيسية التي ينتظر من الدين تحقيقها في حياة البشر، وفي هذا السياق تحرك ليخرج الدين من قوقعته التي فرض عليه البقاء فيها طوال سنين عديدة من قبل المتدينين ومن قبل اللامتدينين على حد سواء.

وفي هذا الشأن تحدث الإمام عن المشروع الإصلاحي والتغييري الذي جاءت تحمله كل الأديان الإلهية بلا استثناء قائلاً: كل الأنبياء من أول البشرية، منذ مجيء آدم ــ عليه السلام ــ إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، كلهم جاءوا من أجل إصلاح المجتمع، ومن أجل صهر الفرد في المجتمع. ونحن لا يمكننا العثور على فرد أفضل وأسمى من الأنبياء، ولا يوجد عندنا من هو أسمى من الأئمة عليهم السلام، ولكن هؤلاء الأفراد جميعهم ضحوا بأنفسهم لخدمة مجتمعاتهم. ولقد أشار الله تعالى إلى أنه بعث الأنبياء وأعطاهم البينات والآيات، وأنزل معهم الميزان وبعثهم {ليقوم الناس بالقسط}[43]، فالغاية من بعث الأنبياء هي قيام الناس بالقسط، ومن أجل أن تتحقق العدالة الاجتماعية بين الناس، وبنفي الظلم ومراعاة الضعيف يتحقق القيام بالقسط. وبتبع ذلك قال تعالى: {وانزلنا الحديد} ــ رحمهما الله ــ فما المناسبة في ذلك؟

المناسبة في ذلك أن تلك الأهداف والغايات لابد من تحقيقها بالحديد، أي بالبينات والميزان والحديد الذي {فيه بأس شديد} يعني إذا أراد شخص (أو جماعة) تسيير المجتمع أو الحكومة العادلة بحسب مطامعه ومصالحه الذاتية فلابد من إصلاحه أولاً من خلال الحديث معه بمنطق العقل وإن لم يصغ إلى نداء العقل والمنطق فلا مناص من استخدام القوة والحديد معه[44].

ولا يغفل الإمام في هذا المجال التنديد بتلك المقولة التي اشتهرت على الألسن في عصرنا هذا والتي كانت تعتبر الدين وسيلة تخدير للأمة، فيتحدث عنها قائلاً: لقد أذاع الأعداء أن (الدين أفيون الشعوب)، ومع الأسف لقد تركت هذه المقولة أثرها في إيران وفي شبابنا، وأثرت أيضاً في بعض المتنورين. ‘ن معنى (الدين أفيون، أفيون المجتمع) هو أن أصحاب القدرة والسلطة يختلقون الدين من أجل أن تبقى الناس نائمة وساكنة! وبالنسبة إلى الإسلام هكذا قالوا: (إن الاسلام كان صالحاً للألف والأربعمئة سنة السابقة، وأما اليوم فلا يمكن أن تطبق كل أحكام الإسلام)، وهؤلاء أصلاً لم يطلعوا على حقيقة الإسلام، هؤلاء يقولون: (إن الأنبياء اختلقوا من أجل أن يختلف الدين، ومن أجل أن يبقى أصحاب القدرة والقوة متمكنين) في الوقت الذي يلاحظ كل من قرأ التاريخ، أو على أقل تقدير قرأ تاريخ الإسلام الذي هو قريب من عصرنا أن من وقف في وجه من، وكل من يلاحظ تاريخ الأنبياء ويبحث عنهم من أيّة طبقة كانوا ومن خالفوا، فإنه يشاهد أن الأنبياء كانوا من طبقة المستضعفين، وهي طبقة عامة الناس، ولقد دفع الأنبياء الناس من أجل محاربة المستكبرين[45].

وينهي الإمام كلمته هذه بالإفصاح عن الدور الحقيقي الذي مارسته الأديان الإلهية في حياة البشر بالقول: الإسلام وسائر الأديان كلها كانت محركة، كانت تستحث الناس وتيقظهم، كانت تعاليم الإنبياء توقظ الناس وتحركهم باتجاه مواجهة المتسلطين والمشركين[46].

ولقد نجح الإمام أيّما نجاح في تأسيس وتفعيل دور الدين في حياة الأمة عبر حركته الجماهيرية، ودلّل بما لا يقبل الشك على أن الدين يمتلك قدرة خارقة على تغيير مصير الشعوب والأمم حينما يستثمر بشكل صحيح، وبالانطلاق من نفس أفكاره وقيمه الإنسانية والأخلاقية; ولقد كان يشعر أنه في موقفه من تفعيل مهمة الدين في حياة ووجود الإنسان المعاصر وسعيه لإزالة التشويهات والتراكمات التي طغت على الدين في صورته الحقيقة، يتبنى الوقوف في مواجهة الصورة المشوهة التي قدمها السذج والخانعين من المتدينين، وفي الوقت نفسه في مواجهة الصورة السلبية التي قدمها أعداء الدين عنه، وعلى هذا الأساس استشعر الإمام أنه يخوض معركة تصحيحية وتغييرية في الوقت نفسه، فهو من جهة يستهدف تصحيح تلك الصورة المغلوطة التي تبناها بعض المتدينين بحسن نية عن دور الدين ومهمته في حياة البشر، ومن جهة أخرى يجد نفسه معنياً بتغيير تلك الصورة ذات السمعة السيئة التي قدمها وروجها أعداء ومنتقدو الدين عن حقيقته ومهمته التغييرية والتى أفصحت عن مضمونها من خلال مقولة: (الدين أفيون الشعوب).

ومن هنا لم يتساهل الإمام في نقد وتزييف وتخطئة تلك الأفكار التي كان يدعو إليها بعض المتدينين والتي كانت تريد أن تحشر الدين في دائرة ضيقة وتبعده عن أن يكون له رأي أو كلمة في قضايا المجتمع وشؤون السياسة، وقد مارس الإمام نقداً مكرراً لهذه الفكرة في العديد من كلماته، وفي كتابه عن (الحكومة الإسلامية) كان يقول: من جهة أخرى فقد بذلوا قصارى جهدهم في التقليل من شأن الاسلام، وتحديد وظائفه ووظائف القائمين عليه من الفقهاء والعلماء، وحصر تلك الوظائف والواجبات في حدود بيان المسائل، وفي حدود المواعظ والارشادات وقد صدّق بعض السذج ذلك فتاهوا من حيث لا يشعرون. أقول لكم: ان هذه الاتهامات والجهود المبذولة في تشويه السمعة تستهدف استقلال البلاد وثرواتها.

المؤسسات الاستعمارية كلها وسوست في صدور الناس ان الدين لا يلتقي مع السياسة. الروحانيون[47] ليس عليهم أو ليس لهم أن يتدخلوا في الشؤون الاجتماعية. ومن المؤسف جداً ان البعض منا صدق بتلك الأباطيل، وقد تحقق بهذا التصديق أكبر أمل كانت تحلم به نفوس المستعمرين[48].

ومن جهة أخرى لمّا كانت هناك دعوات محمومة لترويج فكرة فصل الدين عن السياسة، فقد وجد الإمام أن من واجبه أن ينتقد هذه الفكرة ويواجهها قدر المستطاع لأنها كانت تلغي الفاعلية التي أراد الإمام أن يحفظها للدين في حياة الفرد والمجتمع، وهذه المواجهة شكلت حلقة أخرى متميزة من حلقات التفكير السياسي عند الإمام الخميني، وفي هذا المجال تحدث قائلاً في لقاء له مع مراسل جريدة التايمز اللندنية: إذا أنتم استطعتم أن تعوا وتفهموا معنى الدين في ثقافتنا الإسلامية فإنكم ستشاهدون بكل وضوح أن لا تناقض بين القيادة الدينية والقيادة السياسية، بل كما أن الكفاح السياسي جزء من الوظايف والواجبات الدينية، فإن القيادة وتوجيه الكفاح السياسي بعض من وظائف ومسؤوليات القيادة الدينية[49].

وفي حديث آخر يفصح الإمام الراحل عن البعد السياسي للإسلام من خلال استذكار المضمون السياسي والاجتماعي لجملة من الشعائر الدينية التي شرعها الإسلام، فيقول: الإسلام دين السياسة، هو الدين الذي يتبين البعد السياسي في أحكامه وفي مواقفه بكل وضوح. في كل يوم توجد اجتماعات في كل مساجد البلاد الإسلامية ابتداءً من مدنها وانتهاءً بقراها وأطرافها، ففي كل يوم يجتمع المسلمون عدداً من المرات لأجل إقامة الصلاة جماعة، ومن أجل أن يطلعوا في كل البلاد والنواحي على أحوالهم، ومن أجل أن يتعرفوا على أحوال المستضعفين، وفي كل أسبوع يعقدون اجتماعاً أكبر من كل الاجتماعات اليومية العادية في مكان واحد، وفي صلاة الجمعة التي تشتمل على خطبتين يلزم أن تطرح قضايا الساعة واحتياجات البلاد واحتياجات المنطقة، ويُتَحَدَّث فيها عن الأبعاد السياسية والأبعاد الاجتماعية والأبعاد الاقتصادية، ويتعرف الناس على كل هذه الأمور; وفي كل عام يوجد عندنا عيدان يجتمع فيهما الناس... وفي صلاة العيد هناك خطبتان يلزم أن تطرح فيهما بعد الحمد والصلاة على النبي الأكرم والأئمة: المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية واحتياجات البلاد أو المنطقة، ويبصر الخطباء الناس بالقضايا; والأهم من ذلك كله أنه يوجد اجتماع سنوي في أيام الحج ويجب أن يحضره من كل البلاد الإسلامية من يستطيع الحج، وهناك يلزم أن تطرح قضايا الإسلام في مواقف الحج، وفي عرفات، وبالخصوص في منى، وبعد ذلك في نفس مكة المكرمة، وبعد ذلك في حرم الرسول الأكرم، وفي تلك المواقف يطلع الناس على أوضاع بلادهم وأوضاع البلاد الإسلامية، وفي الحقيقة أن هناك يعقد مجلس واجتماع على مستوى عال من أجل دراسة كل أوضاع البلاد الإسلامية[50].

وانطلاقاً من ذلك فقد نظر الإمام الراحل إلى مقولة فصل الدين عن السياسية نظرة سلبية ورأى أن الدخلاء استهدفوا ترويجها من أجل القضاء على فاعلية الدين بما هو محرك يستثير الأمة في مواجهة خططهم ورغبتهم في السيطرة على البلاد الإسلامية، وهكذا كان شعار فصل السياسة عن الدين من ترويجات المستعمرين التي أرادت أن تبعد المسلمين عن التدخل في تقرير مصيرهم[51]، في الوقت الذي يرى الإمام ان أحكام الإسلام المقدسة تتعرض للأمور السياسية والاجتماعية أكثر من تعرضها للأمور العبادية; ومنهج نبي الإسلام بالنسبة إلى شؤون المسلمين الداخلية والخارجية يدلل على أن إحدى أهم المسؤوليات الكبرى التي كان يتحملها شخص الرسول الأكرم ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ هي مهمة الكفاح السياسي[52].

ومن يتابع كلمات الإمام الخميني في ما يحمله من رؤية حول الدور الذي ينبغي أن يكون للدين بشكل عام وللإسلام بشكل خاص في حياة الإنسان يلمح تصورات دقيقة يشير إليها الإمام ويتناولها بالبحث في العديد من المناسبات، وهو يتحدث بكل حسم وإصرار عن الأبعاد السياسية في الإسلام قائلاً: دين الإسلام في الوقت الذي يقول للإنسان: اعبد الله، ويدله على كيفية هذه العبادة، فإنه يبين له كيف يعيش، وكيف ينظم علاقاته بسائر الناس، وحتى يهديه إلى كيفية تنظيم المجتمع الإسلامي روابطه مع سائر المجتمعات; ولا توجد حركة أو عمل يقوم به الفرد أو المجتمع من دون أن يقرر له الإسلام حكماً، وعلى هذا الأساس من الطبيعي أن يكون مفهوم القيادة الدينية وقيادة علماء الدين شاملاً لكل شؤون المجتمع، وذلك لأن الإسلام يعني بهداية المجتمع في كل شؤونه وأبعاده[53].

وحركة الإمام في تفعيل مهمة الدين في حياة الإنسان المعاصر استوعبت العديد من أبعاد الدين، ولقد كان (الشعار) هو أحد أهم الأبعاد التي أتقن الإمام الخميني استثمارها وتفعيلها في حياة وحركة الأمة، انطلاقاً من الموقع الذي يحتله الدين في فكر ومشاعر الأمة، فهو الذي قرن تحركه السياسي بالعديد من المصطلحات التي، وإن استلهم بعضها من مرجعيته الإسلامية والدينية، إلا أنه استطاع أن يُفَعِّلَها في الحياة العامة للمسلمين وللمستضعفين بشكل لم يعهد من قبل، إضافة إلى بعض المصطلحات التي ابتكرها الإمام ابتكاراً من دون أن يكون لها وجود قبله أو عند غيره من القياديين والساسة، كما هو الشأن بالنسبة إلى مصطلح (الشيطان الأكبر) الذي أضحى علماً على أكبر قوة سياسية وعسكرية حاكمة في عالمنا المعاصر، وهي دولة الولايات المتحدة الأمريكية.

وهناك جملة من المصطلحات التي جعل لها الإمام الراحل فاعلية لم تكن معهودة من قبل في حياة الجماهير المسلمة، كما هو الشأن بالنسبة إلى مصطلح (المستضعفين) و(الاستكبار العالمي) و(ولاية الفقيه) و(الجمهورية الإسلامية). و لقد دللت هذه الإمكانية التي تمتّع بها الإمام الخميني في ابتكار وتفعيل المصطلح السياسي على قدرة على التميّز عن بقية التوجهات والتيارات السياسية والفكرية الفاعلة في الساحة الاجتماعية، واعطاء الحركة بعداً ذاتياً في التعبير عن خصائصها ومنطلقاتها الإنسانية والإسلامية، وهذا الأمر أفصح عن بعدين مهمين في حركة الإمام السياسية، الأول منهما هو بعد الأصالة والكشف عن الانتماء إلى المرجعية الدينية الإسلامية في المجال الفكري والنظري، والثاني هو التجديد والابتكار في استعادة دور الدين كمؤثر وفاعل في توجيه وتغيير الممارسة الإنسانية، في وقت اعتقد فيه أكثر الناس أن الدين قد انسحب من حياة البشر وأخلى دوره في التغيير والتوعية إلى التيارات الفكرية والسياسية المناهضة له والملغية لقيمته، أو بتعبير آخر: للتيارات والتوجهات الوضعية التي تنتمي أساساً وأصلاً للإنسان بما هو كائن غير مرتبط بالسماء ولا منتم إلى مرجعية الدين.

لقد استطاع الإمام الخميني أن يلغي هذه النظرة السلبية للدين ولدوره في حياة الإنسان المعاصر، وأن يثبت في المقابل أن الدين في حقيقته الأصلية هو الأقدر من بين كل التيارات والتوجهات على تحريك مشاعر الأمة واستثارة همها باتجاه صنع مستقبلها وصياغة مصيرها. وفي الوقت الذي كان الإمام الراحل يعي هذه القضية تمام الوعي، فإنه كان يدرك أيضاً أن الدين (الإسلام) يمتلك وضعاً خاصاً بالنسبة إلى الأمة التي أراد أن يتحرك الإمام في وسطها وأن يحررها من سلطة الطاغوت، وعلى هذا الأساس نظر إلى الإسلام بما هو مكون فاعل من مكونات الأمة، ما كان بالإمكان الاستغناء عنه أو التقليل من أهميته، بل ما ينتظر من المصلح الثائر أن ينجزه هو السعي لاستثمار القدرات التي ينطوي عليها الدين بما هو مشروع تغييري في تحريك الأمة والنهوض بها، وهذا ما فعله بالضبط، فلقد سعى لاستنفار كل القدرات التغييرية التي ينطوي عليها الدين بما فيها الشعار والمصطلح، فقام ــ رضي الله عنه ــ باستثارة وتفعيل المصطلحات والشعارات التي حركت الجماهير ودفعتها للتضحية عبر الالتجاء إلى المنظومة الفكرية نفسها للدين.

وهاهنا ملاحظة مهمة لابد من التوجه إليها في المشروع السياسي للإمام الخميني وهي: ان الشعار حينما لا يحكي فكرة ولا يتواصل المصطلح مع مضمون، فإن ذلك ينذر بوجود حالة غير سوية في مسار الحركة التغييرية، فهناك حالة مرضية تصاحب الكثير من الحركات التغييرية والثورية، وهي عدم قدرة هذه الحركات على تجاوز مرحلة الشعار المجرد إلى مرحلة الفكرة المستوعبة، ومراوحة أيّ مشروع سياسي تغييري ضمن مرحلة الشعار وعجزه عن تجاوزها، يؤذن بوجود خلل عميق في الأسس الفكرية والعملية التي قام عليها المشروع، لأن مؤيدي أيّ مشروع لابد أن يتوقعوا منه بعد مدة أن يحقق بعضاً من الشعارات التي رفعها في مراحل تحركه السابق وقبل أن تنفتح أمامه آفاق العمل والتطبيق، وإذا ما أتيحت الفرصة أمامه وعجز عن تجسيد مقولاته وشعاراته في الواقع العملي فإن المؤيدين سرعان ما يتراجعون، وتبدأ عملية التشكيك في صدق المشروع، مما يهدد كل المشروع بالسقوط والفشل.

ومن يدرس التحرك السياسي للإمام الخميني يدرك أنه كان يعي هذه القضية تمام الوعي، ولذا لم يتمثل في أيّة مرحلة من مراحل تحركه ــ سواء قبل الثورة أم بعدها ــ العجز والقصور عن تجديد فاعلية الجماهير ودفعها للاستجابة إلى متطلبات مشروعه السياسي التغييري، من خلال ما كان يثيره من أفكار ورؤى حول مختلف القضايا الإنسانية التي كان يمتلك قدرة خاصة على تفعيلها في واقع الناس وجذب اهتمامهم نحوها، في الوقت الذي ربما تكون العديد من تلك القضايا ليست محل اهتمام الآخرين في الوقت الحاضر، ولكن لأن الإمام ــ رضي الله عنه ــ كان يعتقد أن الناس والجماهير لابد أن تعيش التجدد والتطور في وعيها وثقافتها واهتماماتها فكان لابد من استباق هذا التجدد ومعايشة ذاك التطور، وما يمكن أن يحقق للإنسان ــ ولا سيما من يكون في موقع القيادة ــ القدرة على استباق الآخرين في وعيهم وتفكيرهم، هو التوفر على إمكانيات التجديد والتطوير في حياته ومسعاه، وهذا ما كان الإمام يجيد القيام به.

--------------------------------

[1]  باحث اسلامي، أستاذ علم الكلام في الحوزة العلمية.

[2]  الكلمات القصار.. مواعظ وحكم الإمام الخميني، (كلمات قصار.. پندها وحكمت ها امام خميني)، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، إيران، ط1، 1372هــ، 1414م هجري، ص173.

[3]  المصدر نفسه، ص173.

[4]  المصدر نفسه.

[5]  سورة الشمس، الآية 7ــ10.

[6]  سورة البلد، الآية 10.

[7]  سورة القلم: 1 ــ 5.

[8]  آيين انقلاب اسلامي، گزيده اى از انديشه وآراء امام خميني (فارسي)، [منهجية الثورة الإسلامية، مختصرات من أفكار وآراء الإمام الخميني]، ص198، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، الطبعة الثالثة، 1374 شمسي، 1416 هجري، إيران.

[9]  نفس المصدر، ص199.

[10]  كلمات قصار.. پندها وحكمت ها امام خميني، ص65.

[11]  نفس المصدر.

[12]  نفس المصدر.

[13]  نفس المصدر.

[14]  آيين انقلاب اسلامي، ص139.

[15]  نفس المصدر.

[16]  سورة النور، الآية 39

[17]  سورة الانشقاق، الآية 6

[18]  كلمات قصار، ص120.

[19]  سورة الحديد، الآية 25

[20]  سورة ال عمران، الآية 103

[21]  آيين انقلاب اسلامي، ص431.

[22]  سورة سبأ، الآية 46.

[23]  ناصيف نصار: منطق السلطة.. مدخل إلى فلسفة الأمر، ص171 ــ 172، دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان ــ بيروت، الطبعة الأولى، 1995م.

[24]  يتحدث الإمام الخمينى في كتابه: (الآداب المعنوية للصلاة) بصورة انتقادية لاذعة عن أولئك الذين يريدون أن يتبثوا كل حقائق الدين الاعتقادية والعقلية من نفس النصوص الدينية نافين إمكانية إثباتها عن طريق العقل، بالقول: ... اثبات الصانع والتوحيد والتقديس واثبات المعاد والنبوة بل مطلق المعارف حق طلق للعقول، ومن مختصاتها وإن ورد في كلام بعض المحدثين من ذوي المقام العالي أن الاعتماد في اثبات التوحيد على الدليل النقلي، فمن غرائب الامور بل من المصيبات التي لابد أن يستعاذ بالله منها. راجع المصدر المذكور، ص344 ــ 345، تعريب: أحمد الفهري، طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1984م.

[25]  كلمات قصار، ص120.

[26]  نفس المصدر.

[27]  نفس المصدر.

[28]  نلاحظ في بعض نصوص الإمام الراحل ثقة غير معتادة يسبغها الإمام على حركة وعمل الأمة، وهو أمر لم نلاحظه إلى حد الآن في أي من الأنظمة السياسية التي تدعى أنها شعبية وتستند في شرعيتها وحاكميتها على آراء الجماهير، وهذه الثقة يبديها الإمام حينما يقول: الإنصاف أن من قام بعمله من أول الثورة إلى حد الآن صحيحاً مئة بالمئة هو الشعب. انظر: كلمات قصار، ص124.

[29]  نفس المصدر.

[30]  نفس المصدر.

[31]  نفس المصدر، ص121.

[32]  نفس المصدر.

[33]  نفس المصدر.

[34]  نفس المصدر.

[35]  نفس المصدر.

[36]  نفس المصدر.

[37]  نفس المصدر، ص122.

[38]  نفس المصدر.

[39]  نفس المصدر.

[40]  نفس المصدر.

[41]  آيين انقلاب اسلامي، ص335.

[42]  نفس المصدر، ص335 ــ 336.

[43]  الحديد: 25. والنص الكامل للآية الكريمة هو: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز}.

[44]  آيين انقلاب اسلامي، ص44 ــ 45.

[45]  نفس المصدر، ص38 ــ 39.

[46]  نفس المصدر، ص40.

[47]  مصطلح يستخدم للتعبير عن علماء وطلاب العلوم الدينية.

[48]  الإمام الخميني: الحكومة الإسلامية، ص138، المكتبة الاسلامية الكبرى، طهران، بلا تاريخ.

[49]  آيين انقلاب اسلامي، ص119 ــ 120.

[50]  نفس المصدر، ص120.

[51]  نفس المصدر، ص121.

[52]  نفس المصدر.

[53]  نفس المصدر، ص118.

 

مشاهده خبر در جماران